talal ( تخيل كيف يكون الحال لو ما كنت سوداني ؟ )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القدس العربي اللندنية اليوم 3/7/2007
[light=#99CC33]
[font=Traditional Arabic][align=center]بين الصورة والحقيقة في السودان:
تأملات في دخول عهد الإنقاذ الوطني عامه التاسع العشر [/align][/font][/light]
د. عبدالوهاب الأفندي
منذ أن نشأ نظام الإنقاذ الوطني في السودان بعد انقلاب الثلاثين من حزيران (يونيو) عام 1989 بقيادة المشير (العميد حينها) عمر حسن البشير، ظل النظام يشكو من تشويه صورته في الإعلام العربي والدولي. ولهذه الشكوي ما يبررها نسبياً، خاصة وأن الإعلام العربي النافذ كان (ولا يزال) في مجملة بعيداً عن أن يكون منبراً حراً للتقييم الموضوعي للأمور، وإنما ظل ينفذ أجندة أنظمة عربية هي بدورها أنظمة شمولية. وعليه فحين تقود أجهزة الإعلام المملوكة سعودياً مثلاً حملة ضد الحكم في السودان تقوم علي تهمة أن هذا نظام استبدادي أصولي فإن المراقب لا يحتاج إلي عبقرية لإدراك أن هذه الاتهامات تنطوي علي أمر آخر.
ولكن من جهة أخري فإن الإدعاء بأن الصورة السلبية للنظام السوداني هي في مجملها نتيجة لتهجم الإعلام المعادي هو مبالغة لا تعكس الواقع، وقد يصبح الإكثار من تردادها نوعاً من التضليل الذي قد يصرف أهل الشأن عن معالجة المشاكل الحقيقية. وقد كنت بحكم مسؤوليتي في هذا المجال خلال سنوات حكم الإنقاذ الأولي طرفاً في نقاشات مستمرة دارت حول هذه القضية، كان الطرف الغالب فيها داخل الحكم يؤمن بأن القضية قضية صورة مشوهة لتجربة رائدة، ويري أن العلاج لها هو في صرف الأموال لاستقطاب الأجهزة الإعلامية والعاملين فيها. وكنت من بين أقلية ترفض هذا التحليل والنهج من منطلق مبدئي.
ولم يكن هذا من سذاجة تعتقد بمثالية العالم وتطابق الصور التي يعكسها الإعلام مع الواقع، ولكن من موقف يقوم علي بعض المثالية والكثير من الواقعية. فالإدراك بأن كثيراً من الدول العربية ذات الأنظمة القبيحة كانت تتلقي إشادة من نفس الأقلام التي تكيل الذم لنظام السودان لا يجعل هذه الأنظمة نموذجاً يحتذي، إذ لوكان الهدف التشبه بها، ففيم التعب والنصب والتضحيات؟ وقد كان رأيي هو أن تحسين الواقع هو المدخل إلي تحسين الصورة وليس العكس. فلا يشرفنا أن يكون النظام موضع إشادة العالم بأجمعه إذا كان واقعه بعيداً كل البعد عن طموحاتنا.
واقعياً فإنه حتي لو اختار السودان حينها الدخول في هذه الحلبة فإن الإمكانات كانت تعوزه لمنافسة الدول النفطية التي كانت تسيطر علي سوق الإعلام. وقد كنت وقتها أسلي نفسي بقراءة دعاوي كانت (وبعضها لا يزال) تؤكد بأنني كنت أتصرف في الملايين وأسيطر علي امبراطورية إعلامية تغطي أوروبا، في وقت لم تكن الميزانية السنوية المخصصة فيها لمكتبي تزيد علي ما يتقاضاه كبار الصحافيين في المؤسسات إياها في شهرين أو ثلاثة. وكنا أحياناً نقضي ستة أشهر قبل أن نتلقي رواتبنا. ولهذا كنت أسر بهذه المزاعم التي كانت تري أنني علي رأس جيش جرار من العملاء، وأعتبرها إشادة مبطنة بجهودي المتواضعة التي استمدت فاعليتها تحديداً من بعدها عن الأساليب اللاأخلاقية التي كنا نتهم بها.
في احتفالات المؤتمر الوطني بمرور ثمانية عشر عاماً علي قيام ثورة الإنقاذ الوطني في الثلاثين من حزيران (يونيو)، كرر الرئيس البشير اتهام الجهات الأجنبية بتشويه صورة الأوضاع في السودان عامة وفي دارفور خاصة، واتهم الولايات المتحدة وبعض جماعات الضغط والجهات المستفيدة بتولي كبر هذا التشويه المتعمد لأغراض سياسية وأيضاً لنهب خيرات السودان . وقد كان من رمزية الوضع أن اللقاء المتلفز الذي كان ينبغي أن يشارك فيه صحافيون من غانا ومصر والولايات المتحدة ومواقع أخري فشل بسبب انهيار نظام الاتصالات. وقد كانت رداءة الاتصال بالسودان إحدي أهم أسباب التعتيم الإعلامي في سنوات الإنقاذ الأولي، حيث كان أي صحافي أو جهة إعلامية مثل البي بي سي تجد صعوبات لا نهاية في الاتصال بأي مسؤول سوداني لاستفساره عن أمر ما أو الحصول علي رد رسمي من أي جهة علي الاتهامات التي توجه للحكومة، وكنا نعاني بدورنا صعوبات مماثلة. ولكن أوضاع الاتصالات قد تحسنت كثيراً منذ ذلك الوقت وأصبحت لدي السودان اليوم شبكة اتصالات حديثة وقنوات فضائية تنقل الرسالة الرسمية للعالم، ولكن مصاعب تحسين الصورة ما تزال كبيرة.
الرسالة الإعلامية هي أولاً وأخيراً عملية حوارية، وهي ما لايفهمه الكثيرون، ابتداءً من أمراء النفط وانتهاء بتوني بلير ومن قبله دونالد رامسفيلد الذين أنهي كل منهما عهده في المنصب الرسمي بشن هجوم مرير علي الإعلام متهماً إياه بمعاداته أو تقويض أسس الحياة السياسية في بريطانيا كما قال توني بلير في خطبة الوداع التي ألقاها الشهر الماضي. وغني عن القول فإن إصدار مثل التهم تعني أن الشخص المعني فشل في إجراء حوار بناء مع الغير، وإقناع الآخرين بسلامة موقفه.
بالنسبة لحكومة الإنقاذ فإن إشكالية الحوار الأولي التي واجهتها كانت أساساً مع الداخل، حيث قامت بحظر كل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وقامت بإغلاق الصحف الحزبية والمستقلة، إضافة إلي إظهار التصلب تجاه الحرب في الجنوب والرفض للاتفاقات التي كانت أبرمت بين الحكومة السابقة وحركة التمرد في الجنوب. وكل واحدة من هذه التوجهات كانت تكفي لإعطاء انطباع سلبي، إذ كيف يتسني إقناع الخارج بأن الحكم يمثل السودانيين وهو يشن هذه الحرب الكاسحة علي الجميع؟ ويزيد من قتامة الصورة أن الانقلاب علي الديمقراطية في السودان جاء في صيف عام 1989، قبل أشهر فقط من سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي وبزوغ عهد الأحادية القطبية التي وصفها البعض بأنها نهاية التاريخ والانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية كنموذج وحيد للحكم. وإذا لم يكن هذا كافياً فإن النظام السوداني ندب نفسه قطباً للمعارضة لهذا الوضع العالمي الجديد، خاصة بعد غزو العراق الكويت ووصول الولايات المتحدة إلي المنطقة ثم دخولها الصومال، مما ألب ضده القوي الإقليمية ممثلة في مصر والسعودية، والدولية ممثلة في الولايات المتحدة ودول الغرب. وفي هذا الوضع فإنه لو كان السودان دولة الخلافة الراشدة لما كانت الهجمة الإعلامية ضده ستكون أخف.
ولكن السودان لم يكن دولة الخلافة الراشدة. ولا عبرة هنا بالقول بأن الدول التي نصبت إعلامها للهجوم علي نظامه كانت في بعض الأحيان أكثر استبداداً وذات سجل أسوأ في مجال احترام حقوق الإنسان. ذلك أن تلك دول كانت راسخة في استبدادها، وقد مكثت عقوداً في السلطة، ونجحت في ترويض أو تغييب المعارضات الفاعلة، كما كان لها حلفاء أقوياء وخزائن ملأي. أما في الحالة السودانية فإن البلاد كانت تنعم قبل الانقلاب بأكثر الأنظمة ديمقراطية في المنطقتين العربية والإفريقية، كما أن البلاد تقوم علي تعددية عرقية وسياسية ودينية تجعل من الصعب تغييب المعارضة. إضافة إلي ذلك فإن النظام الجديد كان قد بدأ بتطبيق برنامج ثوري ليس له سابقة حتي بمقاييس الثورات العربية السابقة، من حيث الإصرار علي تغيير التوجهات السياسية والأيديولوجية وتغيير بنية وهيكلية الخدمة المدنية وتركيبة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والإدارية. فلا عجب إذن والنظام قد اختار أن يخوض في وقت واحد معارك لا حصر لها في الداخل والخارج أن يواجه بهذه الرفض الإعلامي، وأن تتحول صورته في الأذهان إلي صورة النظام العدواني القمعي الذي يكمم الأصوات في الداخل ويسعي إلي زعزعة الاستقرار في الخارج.
وإذا لم يكن هذا كافياً فإن النظام الذي سعي (بدون كبير نجاح) إلي تكميم أفواه المعارضين قام أيضاً (وبنجاح أكبر) في تكميم أفواه مؤيديه، حيث كان ينكر في البدء هويته الحقيقية. وهذا موقف انعكس سلباً عليه. فمهما قيل في أنظمة الاستبداد العربية الأخري، مثل حكومات البعث في العراق وسورية مثلاً، فإن هويتها كأنظمة حزبية كانت مصدر فخر لها. أما النظام السوداني فقد كان يعتبر أي إشارة إلي هويته الإسلامية عملاً عدائياً، وبالتالي لم يكن هناك مجال لأي حوار علني جدي حول برامج النظام وتوجهاته. وهذا هو السبب الأساسي في أن كتابي الثورة والإصلاح السياسي في السودان (1995)، اعتبر بمثابة القنبلة السياسية التي استحقت من الإعلام الرسمي أسابيع من القصف المكثف ضد الكتاب ومؤلفه لمجرد أنه أثار أسئلة وقضايا حول مدي فاعلية استرايتجيات النظام، وهي قضايا من المفترض أن تكون موضع نقاش يومي في أي ساحة سياسية. ومن هنا فإن الانتفاضة العنيفة ضد الكتاب كانت مؤشراً إلي المسافة الطويلة التي قطعها البعض في مسيرة خداع الذات، والعيش داخل التمثيلية السخيفة التي لم تقنع أحداً سوي ممثليها المغيبين عن الوعي.
قادة النظام أخذوا مؤخراً يعترفون بما ارتكبوا من أخطاء، خاصة بعد أن أخرج التصدع في داخل بنية النظام إلي العلن كل المسكوت عنه. ولكنهم أضافوا شكوي جديدة، وهي أن الحكومة قد تابت عن أحاديتها ووقعت اتفاقيات سلام مع الجهات التي كانت ترفع السلاح في وجهها، واستوعبت كثيراً من المعارضين في السلطة، وأتاحت حريات في مجال الصحافة والتنظيم السياسي لا يوجد مثيل لها في معظم الدول العربية، ونبذت الإرهاب وتعاونت مع المجتمع الدولي فيه، وساهمت في خلق نهضة اقتصادية لم تشهد البلاد لها مثيلاً من قبل عبر استخراج النفط وإرساء أسس اقتصاد السوق. ومع ذلك فإن النظام يواجه هجمة إعلامية دولية لا مثيل لها، ويتهم قادته بجرائم الحرب وتنصب لهم المحاكم الدولية شأن قادة يوغسلافيا ورواندا وليبيريا وسيراليون السابقين. وكل هذا بحسب البعض تفوح منه رائحة التآمر الخارجي المشبوه، والغرض الممرض.
وبحسب رأيي فإن هذا تفسير قاصر للأمور. فالانتقادات التي توجه لنظام السودان لا تأتي فقط من الإدارة الأمريكية والأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة وحقوق الإنسان، ومن أوروبا والإعلام العربي والعالمي، بل تأتي كذلك من الشيخ حسن الترابي والصادق المهدي ومحمد ابراهيم نقد (زعيم الحزب الشيوعي السوداني). ولا يمكن اتهام الترابي بأنه يعادي المشروع الإسلامي ويمالئ الامبريالية. وما يشاع عن فساد يسكت عليه رؤوس النظام ويشارك فيه بعضهم وكثير من ذويهم لا يمكن أن يكون كله من فبركة الحاقدين. وأي مسؤول يجادل في أن ما وقع في دارفور لم يكن كارثة إنسانية وسياسية ذات أبعاد تاريخية لا بد أنه يعيش في عالم غير ذلك الذي يعيش فيه بقية سكان كوكب الأرض، وبالقطع يعتقد أنه يحكم بلداً غير ذلك الذي تعتبر دارفور جزءاً منه.
وهذا جانب آخر من إشكالية النظام في السودان، وهي أنه خلق بخطابه عالماً خاصاً به هو أشبه بعالم الخيال، تحول بدوره عقبة أخري في طريق الحوار والتفاهم مع الآخرين. ويذكرني هذا بخطاب لسفير سوداني في عاصمة غربية كبري ألقاه في جمع من الخبراء تداعوا لمناقشة الأزمة السياسية في السودان، طفق فيه يعدد لأكثر من ساعة مزايا الوضع في السودان، وكيف أنه يمثل نموذجاً للحكم الصالح والنهضة الاقتصادية والتعايش السلمي بين السكان، إلخ. وبعد أن انتهي صاحبنا من إلقاء ملحمته التفت إلي أحد الحضور قائلاً: لو كان بلدكم يعيش كل هذه النعم التي يحسدكم عليها أهل اليابان وسويسرا، فلماذا دعينا إلي مؤتمر يناقش أزمة لا وجود لها؟
إن بعض كبار أقطاب الحكم في السودان وبطانتهم معذورون بالطبع إذا كانوا يعتقدون أن السودان يتفوق علي سويسرا في الرخاء، ليس فقط لأن حساباتهم المصرفية توجد في سويسرا، بل لأن مساكنهم يوجد فيها من الرفاه والعزلة من محيط الشقاء المحدق بها ما لا يوجد في سويسرا. وقد ينظر الكثيرون منهم بارتياح وفخر إلي أن النظام استمر في الحكم لثمانية عشر عاماً، وهو ما لم يبلغه نظام حكم سوداني سابق منذ أيام ملوك سنار. ولكن مقاييس النجاح بالنسبة لأي نظام لا تتعلق بطول البقاء، ولكن بالقبول الشعبي، والقدرة علي الاستمرارية. فهناك أنظمة كانت ملء السمع والبصر، مثل نظام صدام والنظام الناصري وحكومات الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية. ولكن بمجرد أن ذهبت قيادات هذه الأنظمة أو فقدت السلطة، اندثرت كأن لم تغن بالأمس، بحيث أن الأحزاب التي تمثل تلك الأنظمة انقرضت أو أصبحت هامشية علي الساحة السياسية في بلدانها.
وبالنسبة لنظام الإنقاذ فإن معيار الحكم علي نجاحه من فشله ليس ما يكتب عنه في الصحف الغربية، ولا قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي، وإن كانت كل هذه شهادات لا يستهان بها، ولكن شهادة الشعب السوداني. هل المسؤولون علي سبيل المثال علي ثقة بأنه لو أن الرئيس وحكومته تقدموا باستقالتهم اليوم وسلموا الحكم لحكومة منتخبة، هل سيكون النظام الجديد استمرارية لسياسات النظام الحالي وتوجهاته، أم أنه سينقلب عليها، بل سيقدم رموز النظام لمحاكمات ويطاردهم ويسلبهم مغانمهم التي استحلوها من ريع السلطة؟ أعتقد أنهم أقدر مني علي الإجابة علي هذا السؤال، وبالتالي أقدر علي أن يحكموا بما لو كان ما حققوه نجاحاً أم فشلاً ذريعاً.
وكل عام وأنتم بخير.